back to Ashya Saghira

من كتاب "اشياء صغيرة"

للدكتور فؤاد سلوم

 



أشيـاء صغيـرة

 بعد طول صراع، مع شركة التأمين، وبعد مناكفات، مع الورثة الآخرين، إستطاع محامي رزان أن يفوز، لها بحصتها من قيمة "التأمين على الحياة"، العائدة لزوجها، الذي تُوفّي بحادث سير مُروِّع، والتي بلغت تسعين ألف دولارٍ أميركي، نقدًا، صارت لحسابها في المصرف، مع مدّخرات أخرى، بلغت ثلاثين ألف دولار.

كانت رزان أستاذة للأدب الفرنسي، في ثانوية رسميّة، في إحدى ضواحي بيروت. زوجها كان موظفًا، في بنك محترم، من بنوك العاصمة. كانا حديثي العهد بالزواج. سنتان، فقط، مرّتا على زواجهما، بعد قصّة تعارف وحبّ لم تطل. عاشا، هذه الفترة القصيرة، حياة زوجيّة كلّها انسجام ورغد. كانا متكافئين، في السنّ والطباع والثقافة، ومتكافئين في دخليهما، تقريبًا، ممّا وفّر لهما بحبوحة أتاحت تقسيط شقّة محترمة، في بناء حديث، في الضاحية نفسها، وغير بعيد عن الثانوية. وانتظرا، قبل إنجاب طفل، ريثما يتمّان تأثيث الشقّة، ودفع أقساطها، وتوفير ما يؤمّن للطفل تربية يؤمنان بها.

كانت صدمة رزان صاعقة. التاعت من حرقة قلبها. تلوّت، ناحت، بكت حتّى جفّت مآقيها. حاضرها كان هنيئًا. مستقبلها كان مشرقًا بالطموح والوعود.

ما أقسى الحياة !

وهي تستمر...

بعد ذكرى الأربعين، عادت إلى الثانويّة... وسارع الزملاء إلى تقديم التعزية إليها، مرّة ثانية، بعد أن كانوا حضروا الجنازة وعزّوا. في الأيام الأولى، تحاشت العيون النظر إليها مباشرة. كانت محرجة. رزان كان محبطة، تجلس أو تمشي كتمثال، وكانت تتكلّم، أكثر بقليل، ممّا يتكلّم التمثال، فتركوها في همّها، إلى حين... كم كانت جميلة في حزنها هذا ! كم كانت عذبة في انكسارها ! وكأنما للإنكسار عذوبة خاصّة، تأخذ بمجامع القلوب ! رزان، في الأصل جميلة : شقراء، مشيقة. عالية الجبين، مشرقة الإبتسامة، ودودة، مترفّعة من غير تكبّر. اليوم، في ثياب الحداد السوداء الطويلة، بدت أكثر طولاً، أكثر ضمورًا. وأضفى اللون الأسود، على بشرتها بياضًا أكثر نقاء، ونفحتها مسحة الحزن، على وجهها، جاذبيّة آسرة. غامت الإبتسامة على ثغرها. والإشراق، الذي كان في العينين الخضراوين تحوّل إلى ظلال ناعسة. صارت رزان، في صورتها الحزينة، وفي انكسارها، أشهى في أحلام زملائها العازبين، ولا سيّما للّذي تحرزه، من ثروة جاءتها عن طريق المصيبة.

ماجد، وحده، كان ينظر إليها مباشرةً، من غير حرج، كلّما سنحت له الفرصة. كأنّه يعتبر نفسه شريكًا في المصيبة ! ماجد حاجب في المدرسة. يعرف نفسه جيدًا. ويعرف مقامه. يعرف أنّه ضئيل الشأن، في نظر الذوات الذين لا يقيّدون عليه حركة أو كلمة. فكان، إذا استدعوه إلى الإدارة في خدمة، ينظر إلى رزان مباشرة، وفي عينيها إذا كان وجهها إليه، وقبل أن ينظر إلى المدير أو إلى الناظر ليتلقّى التعليمات. وإذا خرج في طلبيّة معينة، ينظر إلى رزان مواربةً، يستطلع ما إذا كانت ترغب في شيء، مع أنّه يعرف أنّها لا ترغب في شيء.

حافظت رزان خلال الشهور التي تلت ذلك الحادث المشؤوم، على الثبات في الاقتصاد، في كلامها وتصرفاتها، تسأل عمّا هو ضروري، لسير العمل التربوي، وتجيب على ما هو جدّي من أسئلة الزملاء. لم تكن تشارك في مزاح أو تتمادى في مفاكهة. وضاق الشبان بتحفّظ رزان. يريدونها أن تأخذ وتعطي معهم، لعلّهم يفتحون ثغرة في تحفّظها، يتسلّلون، عبرها، إلى خفايا قلبها. لن يعود زمنها إلى الوراء. لن يعيد تزمّتها بهجة الحياة التي نعمت بها مع زوجها. لماذا لا تنظر إلى الأمام ؟ لماذا لا تهيّيء لمستقبلها الذي لا بدّ آتٍ ؟ مباهج الحياة تنتظرها، فلماذا لا تزال تنظر إلى الوراء ؟ كانوا يتساءلون فيما بينهم، ويتساءلون مع أنفسهم، على أساس أن هذا هو المنطق السليم. كلّ واحد من هؤلاء كان يظنّ نفسه فارس ذلك المستقبل. منهم من سبق أن حلم، بمستقبل يجمعه مع رزان. لم يتحقّق حلمه، آنذاك، لأنّ بالها كان في مكان آخر. كانت تنسج علاقة حبّها، مع من اكتملت سعادتها بالاقتران به، والذي خطفه القدر سريعًا من بين يديها. هؤلاء أعادوا ترشيح أنفسهم من جديد، لعلّ الريح تنفخ في أشرعتهم هذه المرّة ؟ أيضًا، زملاء جُدد التحقوا بالثانوية بعد زواج رزان. أعجبوا بها وهي متزوّجة فكانت مثالاً لفتيات أحلامهم. هؤلاء كانوا أكثر خيلاء من أولئك، يزهون بعمرهم الريّق وبغرور من لم يذق طعم الخيبة. ظنّوا حظّهم أوفر. هؤلاء وأولئك كان الطمع يعزّز رغبتهم في خطب ودّها.

كانت رزان، بذكائها المعهود، تدرك ذلك جيدًا. كانت تدرك، أيضًا، أنها لا بدّ أن تتزوّج، من جديد، ولو بعد وقت. ماذا ترجو أرملة، من حياتها، وهي لا تزال شابّة، في السابعة والعشرين، من عمرها ؟ لكنها ستتريّت. تدرس. تختبر النوايا. إذا اقتنعت تقدم.

مرّ أكثر من عام، ورزان تدرس وتختبر... كانت خيبتها بزملائها كبيرةً. كانت أكثر من كبيرةٍ، جارحة. كانوا يفكّرون بها كخازنة لمال، يطمحون إلى امتلاكه، وأكثر ما كان يدهشها، أنّ مثل هؤلاء المتعلّمين ما زالوا يقيّمون المرأة، بعيون السلف "الصالح". كانوا يريدونها، يخطبون ودّها وهم يرفعون من شأن أنفسهم، بينما يواربون في اعتبارها أنها امرأة "عبرت من تحت يدّ" (سكند هَند). خطيئتها كبيرة، في نظرهم. إنها أرملة. كانوا يريدونها، لكن مُهانة، وكانت رزان تكظم غيظها.

واحدٌ من أهل المدرسة، ماجد، ما غيره، بقي ينظر إلى رزان، بعد الحادث، كما كان ينظر إليها قبله. كان ينظر إليها كأميرة، وبقي يراها تلك الأميرة. ماجد شاب فقير، ارتاد المدرسة الرسمية، في قريته الجبلية، ونال فيها تعليمًا متوسطًا. أبوه فلاّح، لا يملك أرضًا خاصة به، بل يزرع قطعًا، من أراضي المالكين الكبار، مقابل حصة من الغلال تكاد لا تفي بحاجات عائلته، فلا يستطيع أن يرسل إبنه ماجد ليتابع تعليمه خارج القرية. أنف ماجد أن يكون، فلاّحًا يعيش مثل هذه الحياة الشاقة، القليلة المردود، المحدودة الأفق، فغامر وغادر القرية إلى بيروت، مثلما يفعل كثيرون من ابناء القرى الجبلية، طامحين إلى عمل كريم وحياة ميسورة. وشاء له القَدر أن يعيّن حاجبًا في تلك الثانوية، وأن يتعهّد "دكان المدرسة". كان شابًا ذكيًا، دمثًا لائقًا في مظهره. وكان على وسامة. منذ أن رأى رزان، للمرّة الأولى، في الثانوية أعجب بها. عرفها عندما كانت عازبة، وعندما تزوّجت، وبعد أن ترمّلت، وبقي يكنّ لها المشاعر نفسها. كان، دائمًا عندما يأتي المعلّمين بالقهوة، في فرصة الساعة العاشرة، يضع الفنجان، الذي فيه "قشوة"، والتي تحبّها رزان، إلى وجهة صدره، ويمرّر الصينية أمام الأساتذة، حتّى إذا ما وصل إليها أدار الصينية، إلى عكس ما كانت عليه، فتأخذ الفنجان الذي تحبّه. يطلبون سندويشات، فيلفّ لها "العروسة" الأغنى والأرتب. لها أفضل "كرواسّان" وأشهى حبّة فاكهة. وعندما تحين حصتها، تنتظرها، في الصفّ، طاولة نظيفة، وكرسي نظيف. توقف سيارتها في الشمس، عندما لا تتوفّر لها الظلال. تنتظر سانحة، تخلي فيها إحدى السيارات مكانها في الظل، فيسارع إلى استئذانها بأخذ المفاتيح، وينقل لها السيّارة إلى الظل. في الطقس الماطر، إذا لم تكن شمسيّتها معها، يسارع إلى دكانه، ويأتي بشمسيّة، ويحملها فوق رأسها، ليقيها من المطر، حتّى تدخل السيّارة. الأمثلة على هذه الرعاية، وعلى مثل هذه الخدمات الصغيرة، لا تحصى. دائمًا وبثبات، يعطي ماجد مجّانًا، ولا يطلب شيئًا لنفسه، ولا يحلم، حتّى، بأن يحصل على شيء، من رزان، لنفسه. كان مدركًا أنّها فوق، وأنّه تحت. كان الحبّ دافعه، وكان يسعده ما يفعل، من أجل الحبّ. ورزان لم تكن غافلة، عن مشاعر ماجد، التي خبرتها منذ أن كانت عزباء، وبعد أن تزوّجت، والآن. وهي، بدورها، لم يخطر على بالها، قطّ، أنّ علاقة ما يمكن أن تربطها به. بل كيف يمكن أن يخطر على بالها؟! كانت لديها كبرياء، كانت لديها طموحات وأحلام بنمط عيش مختلف... مع كلّ ذلك، كان يسرّها أن يخصّها رجل، بمثل هذا الاهتمام. وكانت تمنحه، بين حين وآخر، إبتسامة واسعة، مشفوعة بكلمة "Merci ماجد"، أو تخصّه بنظرة وادعة، من عينيها، ورفّة من أجفانها، فكان من أسباب سعادته أن يسمع اسمه تلفظه شفتاها، فيقع، في سمعه، كنغمة شديدة العذوبة فيحبّ اسمه أكثر. ولم تكن نفسها تخلو من بعض المكر، فكانت إذا ترامى إلى سمعها أنّ ماجدًا تصدّى لبعض زملاء تعرّضوا لها بنقد، ومن موقعه كمجرّد حاجب، كانت تختلس فرصةً، بعيدًا عن مسمع ومرأى، تناديه لتقول له :

- معليش ماجد حبيبي، شو بدّك فيهم، يحكوا متل ما يحبّوا. لا تهتّم. إي ماجد ؟ وعدني إنك مرّة تانية، ما تواجه حدا من هودي الثرثارين. ما بحب تزعل من الناس كرمالي...

وكان ماجد يهزّ برأسه واعدًا. وكانت تعرف، بسرور، وكان يعرف، بسرور، أنه لن يفي بوعده. وكأنهما متواطآن !

اقتربت السنة المدرسيّة من نهايتها. إمتحانات، تصحيح مسابقات، تصفية علامات، ثمّ خلت المدرسة من طلاّبها. أثناء ذلك كان ماجد في انشغالٍ دائمٍ : من قاعة إلى قاعة، يحمل صواني القهوة والمرطّبات "والعرائس" وأنواع البسكويت والشوكولا. وأيضًا الأوراق والأختام والصموغ. في ضيافة الإدارة، يتناولون كلّ ما لا يشغلهم عن النظر والمراقبة...

آنئذ لم تكن رزان تحتاج لأن تطلب شيئًا، ولا حتّى أن تمدّ يدًا. ماجد يحفظ، عن ظهر قلب، ما تحبّ وما تكره لذلك تجد حاجتها أمامها على الطاولة، لكنّ شيئًا في سلوكها، تجاه ماجد تغيّر، صارت تأخذ الفنجان الفارغ، وتلاقيه به إلى الباب، تردّه وتهمس له شاكرة. أو تكمش غلاف البسكويت، مطبقة كفّها عليه وتمدّ يدها، فيلاقيها بمدّه كفّه المفتوحة، فتضع قبضتها في كفّه، وترخي الغلاف، وتدعو له : "فرحتك". كانت تفعل ذلك بجرأة، أمام الزملاء، ممّا جعل بعضهم، ممّن رشّحوا أنفسهم لها، أنّها تناور لتثير غيرتهم. ضحكوا في سرّهم، وظنّوا أنها تحاول أن تثير ردّة فعلهم، فزادوا من مكابرتهم، فكانت تبتسم في سرّها وفي علانيتها.

عند نهاية الأسبوع، اقتربت رزان من ماجد، وسألته :

-       ماجد، عندك وقت فراغ بعد الدوام ؟

-       ولو ؟ إذا ما في بخلق. بتريدي شي ؟

-       لا. لكن قارورة الغاز فرغت، ما عندي بدل.

-       على عيني.

كان ماجد، غالبًا، ما يبدّل لها قارورة الغاز. لم تكن تسأله. كانت تمدّ يدها بالمفاتيح وتقول : قنينة الغاز. يأخذ سيارتها، يفتح باب الشقّة، يأخذ القارورة الفارغة، يبدّلها بأخرى ملأى، ويعيدها إلى مكانها، ويتأكّد من سلامة التركيب. آخرون، من زملائها، كانوا يكلّفونه مثل هذه المهمات، وكان يلبّي. كلّهم يثقون به، ويشهدون على أمانته وحبّه للخدمة. كانوا يتركون له بعضًا من نقود. كان يقبل من الجميع إلاّ من رزان. لذلك، لم تعد تكلّفه بشيء، إلاّ عند الضرورة القصوى، لأنه لم يكن يتقاضى منها بدل أتعاب. كان يغيظه ذلك وكان يسكت.

بعد الدوام، جاءها سريعًا إلى بيتها. أخذ القارورة الفارغة، وذهب بسيارتها، ليقوم بالمهمّة، كما كان يفعل. عندما أنهى العمل سألها :

-       بعد في شي سيّدة رزان ؟

كان وجهها إلى المجلى، فدارت إلى ماجد واتّكأت بمؤخّرتها إلى المجلى وحدّقت وهي تبتسم إبتسامة واسعة وأومأت برأسها أن نعم.

-       أمري

-       نعم. لكن عندي شرط.

-       أشرطي، حاضر.

-       تقبل دعوتي إلى الغذاء.

نظر مبهوتًا، في عينيها، وكأنّه لم يسمع ولم يفهم :

-       آآآ...

-       تقبل دعوتي إلى الغذاء

-       لكن، سيّدة رزان، أنا، أنا...

-       طيّب، سلامتك. خلص. ما بدّي شي.

أنت ترفض شرطي.

-       لا لا. أبدًا، سيّدة رزان. لكن أنا، أنا...

تلعثم، لا يعرف أن يخبر عن الضمير "أنا".

عادت تسأل، وهي تهزّ بسبابتها وبرأسها، أمام عينيه :

-       تقبل شرطي.

وافق متهيّبًا بهزة من رأسه.

-       طيب. طلبي، بِ شو بساعدك ؟

-       قشّر توم، ودقّوا مع الزيت والملح والحامض. بعدين، قشّر بطاطا وفصّلها للقلي.

هل طلبي صعب عليك ؟

ابتسم ولم يردّ، ومضى إلى عمله رشيقًا، بينما كانت رزان تحمل صينية الفرّوج المقطّع، لتضعها في الفرن.

كانت رزان، وهي تدور في المطبخ، وفي أنحاء البيت، متجلّية في أبهى جمالها. ماجد، نفسه، الذي كان يراها، دائمًا، قمّةً في الجمال. رآها أجمل. كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا طويلاً، واسعًا، مقوّرًا بعض الشيء. لونه أبيض، منقّط بالأحمر. وكان عطرها كثيفًا فاغيًا. شعرها الذهبي متهدّل على الكتفين، حتّى إذا ما دارت يمينًا، أو شمالاً، يلتفّ مصفّقًا على وجهها، ويرتدّ تاركًا شعرات عالقة على جبينها وأنفها، فتردّها بأصابعها الناعمة. أينما راحت، أينما جاءت، كان لحفيف ثوبها نسيمٌ مسكرُ، يسحب عطرها وراءها. كانت مرحة، تثرثر على غير عادتها، في كلّ شأن : عن المدرسة، عن السوق، عن التدبير المنزلي، عن كلّ ما يخطر على البال. وكانت مقتحمة. تتناول من مشك الصحون، أمام ماجد الواقف إلى المجلى، مرّة صحنًا، ومرّة كوبًا، ولوازم أخرى، ولا تهتمّ إذا اتكأت بيدها على كتفه، أو لامس صدرها، سريعًا، ظهره، ولو صفق شعرها وجهه، عندما تدير رأسها قربه.

وكان ماجد نشوان لا يعي.

جلسا إلى المائدة. صبّت له كأس نبيذ، وصبّت لها. رفعت كأسها :

-       بصحتًكْ

-       بصحتِكْ

بعد الكأس الثاني، انفكّت عقدة لسان ماجد، وشعر أنّ المسافة بينهما تقلّصت. صار يتكلّم ويسأل ويجاوب، إلى أن سألته :

-       ماجد، شو عمرك ؟

-       خمس وعشرون

-       أااا... من عمري، تقريبًا.

-       أنت ِ قطعتِ العشرين ؟ ما هو باين

-       بلى أكثر بكثير.

-       معقول ؟

لم تجب، بل ردّت رأسها إلى الوراء، ضاحكة، ثمّ هزّته مرارًا، إيجابًا، وهي تطبق فمها

-       أم م م...

وفاجأته :

-       أي متى رح تتزوّج ؟

-       أنا ؟

-       إي إنت.

-       بعد بكير. بكير كتير.

-       ليش بكير.

-       ماني مستعد. الزواج مِكلف كثير. مستحيل بالمستقبل القريب.

-       كيف الواحد بيستعدّ حتّى يتزوّج ؟

-       أنا فقير. ما عندي شي. ما حدا بيقبل فيِّي.

-       أوّلاً، الفقر ما هو عيب، الغِنى غِنى الشخصيّة، وإنت غني الشخصيّة. المهمّ ما هو أيش عندك. المهمّ أيش إنت. إنت رجل حرزان. تنين : أنا عيني على واحده بتقبل فيك وبتتمنّاك. شو رأيك ؟

-       مين ؟

-       قدّامك. شايفها.

طاش رأسه، لم يخطر على باله. لم يفهم

-       مين يعني ؟

-       ولو ؟ بدّك تعرف إسمها ؟ طيّب. إسمها رزان.

وقف كمَن لسعته أفعى، فانقلب كأس النبيذ، وطارت الشوكة من الصحن، الذي ضربته يده، عندما هبّ واقفًا. ووقفت رزان، تنفض فستانها من النبيذ، الذي سرح على الطاولة، وبلّل حضنها.

-       لا تواخذيني، لا تواخذيني، الله يخليكي، لا تواخذيني.

مدّت يدها إلى كتفه وكبسته :

-       قعاد

قعد وقعدت. نظرت أمامها، واضعة رأسها بين كفّيها، تفكّر في ما ستقول، من كلام مُقنع، غير مُحرج. بعد لحظات، رفعت عينيها إليه، وقالت :

-       بعرف إنّك ما بتكرهني.

إنتفض يريد أن يجيب، فأومأت إليه أن انتظر. تابعت :

-       أنا بقدّرك كتير، بحترم، أنت رجل طيّب. عطوف، خَدوم، أنا أرملة وحيدة، ميسورة، مطموع فيها، أنا بحاجة لرجل شريف يحميني، خايفة من رجل يتزوّجني طامع بثروتي، متل هيك رجل يمكن يهينني، إذا ما سمحتلُّو يتحكّم بمالي. وإذا بَعْزَق مالي بيرميني. أهلي بعاد عنّي. إذا رضيت فيِّي بتكون إنت أهلي. ما بدّي جواب فورًا. فكّر وبعدين جاوب.

فتح فمه يريد أن يجيب، فوقفت ومالت فوق الطاولة، ووضعت يدها على فمه.

-       ولا كلمة. لمّا تفكّر، ردّ جواب.

سكت، قام، وقال : عن إذنك... وخرج. تبعته إلى الباب. نادته بينما كان يفتح باب المصعد :

-       ماجد

إلتفت وكان وجهه كالجمر، وفي عينيه دموع. أشارت إليه أن تعال. إقترب. مدّت يدها إلى جبينه، تزيح عنه خصلة شعر سوداء وقبّلت خدّه خطفًا، وأغلقت الباب.

نهار الاثنين، كان موعد قراءة العلامات. الطلاّب مصطفّون في الملعب، وأمامهم المدير يحيط به الأساتذة. أخذ الطلاّب دفاتر علاماتهم وانصرفوا، وأقبل المعلّمون، بعضهم على بعض، يتبادلون التمنّيات وتحيّات الوداع. إقترب ماجد من رزان وسألها : عاوزتيني اليوم ؟ أشارت برأسها أن نعم، وناولته المفتاح قائلة : انتظرني في السيّارة. عرفت الجواب، الذي لم تكن تشكّ فيه. في البيت اتّفقا على كلّ شيء. تزوّجا خلال العطلة الصيفيّة، باحتفال مختصر، بسيط لكنّه حميم...

عرف أهل الثانوية بالحَدَث، وعلّق المدير :

كثيرون منكم لم يعرفوا أن يقدّروها، عرفت أن تختار مكانًا يحفظ لها كرامتها.

 

back to Ashya Saghira