back to Ashya Saghira

من كتاب "اشياء صغيرة"

للدكتور فؤاد سلوم

 

 

الســـــاذج

 

سأل والده، وكان في التاسعة من عمره :

-       أمّي تناديك يا ذود (جود) تلّعلي ثلّة الغسيل عَ السطح (طلّعلي سلّة الغسيل عَ السطح). يا ذود ذيب حتب من الكبو (جيب حطب من القبو). فتاح باب الكن للذاذات (القنّ للجاجات). يا ذود ثحبلي الثحاب عَ دهر (سحبلي السحّاب عَ ضهري).

كلو : يا ذود، يا ذود... أنت ثو إثمك ؟ (شو إسمك) ؟

-       كيف شو إسمي ؟ إنت ما بتعرف إسمي ؟

-       ذيرانّا وكلّ الناث بيكولو : ثباح الخير يا بو خدر (جيرانا وكلّ الناس بيقولو صباح الخير با بو خضر). كيف الحال يا بو خدر. وين رايح يا بو خدر...

أنت بو خدر أم ذود ؟

-       الإسمان إسمي.

-       ليث أنا إسمي واحد ؟ خدر بث ؟ ولاه خدر ذماد (إجمد). يا خدر عبّي البريك (الإبريق). يا خدر غلاك الباب (إغلق). ولاه خدر ثرعتنا (صرعتنا) لا بكى دز ( لا بقى تضجّ)...

-       إسمي الأصلي جود. إمّك تناديني جود بدافع رفع الكلفة بين المرا وزوجها. يعني بالمونة. يا عمّي إمّك بتمون. بتمون كتير.

وتنهد أبو خضر وتابع :

أما الجيران فبداعي الإحترام ينادوني أبو جود حسب عادة الناس في الضيعة. يعبّرون عن احترام الرجل بمناداته بإسم إبنه البكر، على اعتبار أنّ الإبن البكر يكون إسمه عادة، على إسم الجدّ، أي والد الوالد، وهذا حفظًا للنسب العائلي الذي يحرص عليه الناس كثيرًا في بلادنا. يعتبرونه دليل الأصالة.

ما إنت إبني البكر ؟

-       معلوم، إثمي خذر متل إثم ذدّي...

-       صحّ

-       إي أنا أيث لاذم يكون إثمي ؟ داعي رفع الكلفة أم داعي الإحترام ؟

ابتسم أبو خضر معتزًّا بنباهة إبنه، وقال بعد تبصّر قليل :

-       لأ إنت رجل محترم.

فانتشى الولد وخبط الأرض برجله وقال :

-       أنا أبو ذود، أبو ذود.

فجذبه والده إليه، وقبّله على رأسه ودمعت عيناه وهو يرى له، في المستقبل، أحفادًا وأحفاد أحفاد.

شدّ خضر نفسه متفلّتًا من يدَيّ والده، وخرج إلى الطريق، وإلى الجيران، يعلن إسمه الجديد : أبو الجود، فصار، مذ ذاك، لا يعرف في الضيعة إلاّ به، وبقي الإسم الأصلي حبرًا في تذكرة الهويّة.

كبر أبو الجود واستقام لسانه، لكنّه لم يفلح في المدرسة بسبب ضعف مقدرته على التعلّم. كان وسيم الوجه، واسع العينين على وداعة فيهما واحورار، عالي القامة ذا بأس. كان موضع سخرية رفاقه، من غير أن يتمادوا علنًا، يتحاشون إغضابه، كذلك كان موضع ابتسام معلّميه.

ترك المدرسة في الرابعة عشرة من عمره، فلا يكاد يقرأ بضع جمل قراءة سليمة، وكان يكتب بنسبة أقلّ. بدا في أعين الأهل والجيران والأنسباء مشروع بطالة. احتار الأبوان: كيف يتدبّران مستقبل إبنهما ؟ لم يستطع أن يبرع في أية صنعة ! جرّب الحلاقة والنجارة والدهان والبناء... دون جدوى !

البلد في أزمات. ضيق إقتصادي متفاقم وصل حدود الإنهيار. البطالة متفشّية حتّى بين الأسوياء القادرين على حمل المسؤوليّات وعلى المبادرة، وأبو الجود ليس منهم، وإن كان آدميًّا بريئًا.

الله لا يقطع بالعباد ! جاء أبو الجود ظرف ملائم جدًا. قل : ضربة حظّ ! الدولة تريد أن تعزّز قوى الأمن الداخلي. السلك بحاجة إلى رجال... أبو الجود صار في التاسعة عشرة، صار رجلاً. الطائفيّة الطاغية على مفاصل الحياة في البلاد يمكن أن تكون نعمة، في بعض الأحيان، على بعض الأفراد، وأن تكون نقمة على الإجمال. التوازن الطائفي مطلوب. المرشّحون من طائفة أبو الجود قليلون. من الطائفة المقابلة كثيرون. والد أبو الجود وأقرباؤه من زبائن نائب المنطقة المتنفذ. سعى الوالد لدى النائب فوفّق في إدخال أبو الجود سلك الدرك... هكذا صار أبو الجود إبن حكومة !... وارتاح الوالدان إلى مستقبل إبنهما.

وصار أبو الجود شخصًا جديدًا. الرياضة والتدريب العسكري والغذاء المنتظم والزّي المدروس أمور جعلت من أبو الجود، الذي لم يكن ينقصه المظهر البدني المكتمل، رجلاً كامل الأوصاف. صار يلفت الأنظار وتتوقف على شكله العيون. ومراعاة إلى الظرف الذي أملى قبوله في السلك، صارت تناط به مهمّات سهلة، تغلب عليها الشكليّة وتتخفّف عنها المسؤوليّة. فكثيرًا ما كان يُرى عند باب الثكنة أو قبالته على الرصيف، يهتمّ بإرشاد السيّارات الزائرة، أو المتسكّعة في الجوار، إلى المكان الأنسب لتركن في الأمان أو تبعًا لمقتضيات الأمن.

أبو الجود كان عنده ولع خاص بسيّارات الـBMW. تفتنه هذه السيّارات، حتّى العادية منها وقديمة الطراز. لم يكن يجيد القيادة، لكن هواه الأفلاطوني لهذه السيّارة، كان عشقًا يشعله. جاءت واحدة بيضاء، حديثة بنت عامها. مضمومة في مقدمها، منسكبة، مرتفعة في مؤخّرتها كمن ترفع تنورتها. تكاد تنسكب على وجهها كشلاّل اللؤلؤ. فارهة، تنساب بين السيّارات كعروس. "مجنّطة" بمعدن الألمنيوم البرّاق على شكل زوبعة، فكأنّها تسير على مغازل سريعة الدوران، تغشي البصر. تقودها ضبية شقراء، منعّمة، أناملها على المقود كزنابق، مخضّبة الأظفار بلون الورد، تشعّ في بعضها خواتم ماسية، تترك في العيون انبهارًا. مكشوفة السطح، يتمعّج جلد مقاعدها العاجي بتراخ، فيغري باستلقاء وإغفاء... خلبته هذه الـBMW ! لم يرَ لها من قبل مثيلاً. آه لو يستطيع أن يسرقها ! كان المكان مكتظًا بالسيارات. ومشغولاً بحركة العساكر الداخلين والخارجين والمنتشرين... قريبًا من مدخل الثكنة، على الجانبين وضعت حواجز موقّتة من حديد شائك، ملوّنة بالأبيض والأحمر، وتمنع وقوف السيارات الغريبة، تحسّبًا، لأنّ في الثكنة ضابط كبير زائر. حاولت الـBMW أن تجد مكانًا للوقوف. راحت وعادت. لم تجد. حزر أبو الجود أن هذه الـBMW، الفارهة تريد مكانًا... نزل عن الرصيف. أوقف المرور، وأشار للـBMW بالوقوف. مشى إلى الحاجز الحديد عند باب الثكنة رفعه، وقلبه على الرصيف. أشار إلى الـBMW فجاءت وارتكنت مكانه. لم يجرؤ حارس باب الثكنة على الاعتراض. بدا أبو الجود حاسمًا...

ارتفع "كبّوت" الـBMW الأسود فصار سطحًا حاضنًا وارتفع زجاج النوافذ من الجهات الأربع. كلّ ذلك بكبسة زر. أبو الجود كان قد عاد إلى مكانه على الرصيف المقابل، وعادت حركة المرور إلى مجراها. نزلت الصبية. كبست على حمّالة المفاتيح فشعشعت جهات السيّارة الأربع بالأضواء البرتقاليّة، وعوت كجروٍ صغيرٍ، علامة على إطاعة الأمر بالإقفال. وابتسم أبو الجود كطفل. بدا سعيدًا... اتجهت الصبيّة صوبه ببسمة وغمزة فلم يردّ التحيّة بمثلها. كان مبهورًا بالسيّارة قبالته، فلم يرَ الصبيّة التي ظنّت أن هذا "الضابط" قد انبهر بصباها.

وتكرّرت جيئات الـBMW في أيّام عادية، لم يكن فيها عجقة. كان أبو الجود يمتّع النظر ما شاء، وكأنّ الحبيبة تؤتيه من غير ميعاد. لاحظت الصبيّة أن "الضابط" يحفل بالسيّارة أكثر مما يحفل بها. كم هو وسيم، رجوليّ، جذّاب. واجهته، مدّت يدها إليه، حدّقت في وجهه مبتسمة وقالت :

-       أميمة !

كانت عيناه في السيّارة. نظر أمامه، من فوق صاحبة السيّارة أمامه، تمدّ يدها. أخذ يدها كفراشة بيضاء في يده، وقال :

-       أبو الجود.

واستدرك سريعًا، فقال :

-       خضر.

قالت :

-       تعجبك السيّارة يا خدر ؟

فتذكّر طفولته، وابتسم وقال وهو يهزّ برأسه :

-       أوووه !

بتروح فيها معي مشوار ؟

فنظر إلى السيّارة، وعاد ينظر في وجهها والسيّارة، ولا يقول شيئًا.

-       يلاّ...

قالت وشدّته.

رفع أبو الجود يده صوب الحارس الذي على باب الثكنة وصرخ :

-       هاه...

التفت الحارس. رأى أبو الجود. فأشار هذا إلى الصبيّة وإلى السيّارة ودلّ بحركة دائريّة في اتّجاه السيّارة، وإلى نفسه والصبيّة. ثمّ بحركتين إلى داخل الثكنة... فهم الحارس : أقوم بجولة مع الصبيّة في السيّارة. أعلم من في الداخل... وهزّ برأسه موافقًا. ابتسم وتمتم بحسد :

-       نيّالك !

رافق أبو الجود أميمة إلى متنزّه فخم على البحر.

سألته : ماذا تطلب ؟ أجاب بعفويّة : بوظة. منذ ولد يحبّ البوظة ! وكان ينظر إلى البحر ساهمًا. ربّما كان يرى الـBMW تتهادى على الصفحة الزرقاء المنداحة إلى بعيد بعيد!

لم يكن ينظر إلى وجه الصبيّة، كان يحدّق في البحر. وكانت الصبيّة تحدّق في وجهه، لا تميل النظر عنه، تشرب من عينيه ولا تشبع. حاولت أن تشاغله بالأسئلة، عن رؤياه في البحر، فلم تنجح.

سألته : نذهب ؟ ففرح وقال : يلاّ.

قام بخفّة وكأنّه يرغب أن يسرع بالعودة إلى الـBMW. رأها تفتح محفظتها لتترك ثمن ما طلبا، فأمسك بيدها وطبقها مع المحفظة. تصرّف كرجل، كفارس مع أنثى. كان ما دفعه باهظًا بالنسبة لمعاشه. لم يحفل. ركبة مثل هذه الـBMW، مرّة واحدة تساوي كلّ معاشه... أنزلته أمام باب الثكنة. سألته : هل تخشى أن يحاسبوك ؟ حرّك رأسه بإشارة النفي وقال : مغطّى !

الجميع في الثكنة، أخذ خبر المشوار.

جاؤوا يسألونه، يهنّئونه، يحسدونه : شو عَ بالك ! يسألونه عن الشقراء، يجيبهم بسعادة عن الـBMW...

وتكرّرت المشاوير، وكان مخزونه من معاش الشهر قد نفد من زمان ! كانت هي التي تدفع، وكان لا يرى بأسًا ! كان سعيدًا.

... ولاحظت أميمة ذلك، ممّا يعني أنّه مرتاح لصحبتها، فقرّرت أن تهجم. دعته إلى الغذاء في مقصف فخم في الجبل، فأسعده المشوار الطويل... على المائدة العامرة، فاتحته بغرضها، قالت :

-       إنتَ شبّ آدمي، مهذّب، أثق بك، وحبّيتك. عندي شقة فخمة على رابية مطلّة على بيروت. زوجي مهندس غني يعمل في دولة الكويت. أعيش وحدي في الشقة. كما ترى أحوالي المادّية ممتازة، أصرف من خير الله، ما شئت. تعال معي إلى البيت. كلّ ما ترغبه تحصل عليه...

كان أبو الجود يستمع إليها بانتباه، لكنّ وجهه احتقن، فصار كجمرة كبيرة. كان كأنّه مصعوق ! سألته :

-       شو رأيك ؟

-       بِ شو ؟

-       إنّك تجي لعندي عَ البيت.

-       ليش ؟

حتّى ننبسط مع بعض.

عندئذٍ، بعد هذا الحوار القصير، إستفاق ووعي ما هو مطلوب منه، فنبر بها متوتّرًا وقال :

-       ولي ش... بدِّك تخوني زوجك معي، مع أبو الجود إبن الحكومة ؟...

ومدّ يده عبر المائدة وصفعها، فانقلبت ملقوحة، ساقها في الهواء، والكرسي فوقها...

تراكض صبيان المقصف ووقف كثير من المقصفين مدهوشين. أحاط به الصبيان، وانحنى بعضهم يلمّ أميمة عن الأرض. وقف أبو الجود متأهّبًا، مدّ يده إلى جيبه وأبرز أمامهم بطاقة وقال : إبن حكومة ! في هذه اللحظة صرخت أميمة وكفّاها على خدّها : اتركوه، اتركوه، مجنون، مجنون...

عندئذٍ وسّع له الجميع طريقًا، فخرج منتصب القامة، واثق الخطو، معبّسًا، فخورًا.

 

 

back to Ashya Saghira