العلاقات السورية الأمريكية

من الإنذار والعقوبات إلى الحوار

حميدي العبد الله

كاتب وباحث عربي في الشؤون السياسية

Hamidi_a@hotmail.com

 

 

قبلت الولايات المتحدة أخيراً الجلوس إلى طاولة الحوار، وهو الأمر الذي طلبته سورية عندما زارها وزير الخارجية الأمريكي كولن باول العام الماضي، ورفضت في حينها الحوار وأصرت على اعتماد لغة الإنذارات والعقوبات، فما الذي تغير وجعل الولايات المتحدة تقبل الحوار الآن، وما هي حدود التغيير في الموقف الأمريكي، وما هي آفاق الحوار بين دمشق وواشنطن؟

 

بعد سقوط بغداد واحتلال القوات الأمريكية لكل أنحاء العراق بأقلّ من شهر واحد قام وزير خارجية الولايات المتحدة بزيارة سورية والتقى فيها مع كبار المسؤولين. في هذه الزيارة قدّم باول لسورية الشروط الثمانية التي كان قد أعلنها رئيس وزراء حكومة العدو أرييل شارون قبل أيام قليلة من زيارة باول إلى دمشق.

 

سمع وزير الخارجية الأمريكي من القيادة السورية كلاماً صريحاً وواضحاً: جميع ما هو مطروح من قبلكم قابل للبحث في إطار حوار عميق ينظر في الأسباب ويعمل على معالجتها. ولكن وزير خارجية الولايات المتحدة كان آنذاك يعيش مناخاً سياسياً وفكرياً آخر عبرت عنه التصريحات التي أدلى بها فور مغادرته دمشق، حيث قال بما معناه: أبلغنا السوريين أن الظروف قد تغيرت بعد سقوط النظام العراقي، وعلى سورية أخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار والتصرف بوحيها، وكان المطلوب شيئاً واحداً، الإذعان، أي أن تقوم دمشق بما قامت به لاحقاً طرابلس الغرب: الاستسلام الوقائي.

 

ومنذ أن غادر وزير خارجية الولايات المتحدة دمشق، ومنذ أعلنت سورية تمسكها بخياراتها الوطنية والقومية والدفاع عن حقوقها الوطنية والقومية بدأت حملة من التهويل والضغوط ضدَّ سورية. فكان العدوان الإسرائيلي الذي نفذته طائرات إسرائيلية على معسكر مهجور في عين الصاحب قرب مدينة دمشق، في حادث هو الأول من نوعه منذ حرب تشرين عام 1973 في رسالة تهويل وابتزاز واضحة واستخدام سياسة ما يعرَف بحافة الهاوية. بعد ذلك واصل الإسرائيليون إطلاق تهديدات ضدَّ سورية محذرين من شنّ عدوان واسع عليها مصحوبة بتأييد أمريكي واضح. وتزامن إطلاق هذه التهديدات مع تحرك الكونغرس الأمريكي تحت تأثير تحريض اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لسنّ قانون لفرض عقوبات على سورية. وقد استخدم عرض هذا القانون على الكونغرس ثم إقراره وتوقيع الرئيس الأمريكي عليه في سياق متدرج من الضغوط وأعمال الابتزاز لإرغام سورية على «الاستسلام الوقائي» والإذعان للشروط الأمريكية التي هي في الوقت ذاته وبالأساس شروط شارون وحزب الليكود في إسرائيل.

 

لم يتم الاكتفاء بذلك بل جرى استغلال الأحداث التي تفجّرت في ملعب القامشلي في محاولة لتسليط الأضواء وتنظيم الحملات الإعلامية الموجهة ضدَّ سورية. ودعمت الولايات المتحدة تحركات بعض الجماعات السياسية داخل سورية التي تحركت تحت عناوين حقوق الإنسان، وضبط أحد المسؤولين في السفارة الأمريكية وهو على رأس إحدى هذه التحركات. وكان لبنان هو الآخر ساحة لممارسة الضغوط المتنوعة والمختلفة من محاولات إسرائيل تصعيد الوضع الأمني على الحدود، إلى التحركات التي قامت بها بعض التيارات السياسية المحلية اللبنانية التي لم تقلع عن رهانها على تدخلات الخارج رغم الدروس البليغة لهذه التدخلات في سنوات الحرب المدمرة التي عاشها لبنان لأكثر من عشرين عاماً، وقد توجت هذه الضغوط بإغراء الولايات المتحدة وبعض الأطراف اللبنانية فرنسا على التراصف وراء الولايات المتحدة والاشتراك في الضغوط التي تمارس ضدَّ سورية حيث أثمر كل ذلك صدور القرار 1559.

 

مرّ عام وأربعة أشهر على زيارة باول لسورية وممارسة كل هذه الضغوط لحملها على قبول هذه الشروط، ولكن سورية أصرت على أمرين أساسيين، وكررتهما كلازمة طيلة هذه المدة.

الأمر الأول، لن نرضخ للضغوط مهما كانت حدّتها، ومهما كان حجم القوى المشاركة فيها، ومهما كانت الآلام التي يمكن أن تسببها لنا ولشعبنا، ولن نقبل المساومة على ثوابتنا إطلاقاً.

الأمر الثاني، سورية مستعدة للحوار في كل لحظة، وهي عامل استقرار وعامل فعل إيجابي على عكس الدور الذي اضطلعت به الولايات المتحدة في العراق، والذي تضطلع به إسرائيل منذ فترة طويلة في المنطقة.

 

قبل أيام وبعد كل هذه الفترة الطويلة زار دمشق وفد أمريكي كبير ضمّ ممثلين لمجلس الأمن القومي، ووزارة الدفاع، ووكالة الاستخبارات الأمريكية ووزارة الخارجية.

وأعلن في ختام المباحثات التي جرت في دمشق أن الدولتين اتفقتا على بدء الحوار فيما بينهما لمناقشة المشاكل المعلقة، ولوحظ أن البيان الذي تلاه مساعد وزير الخارجية الأمريكي وليم بيرنز الذي ترأس الوفد الأمريكي، والذي أعدّ مسبقاً في واشنطن حمل تغييراً في الموقف الأمريكي بالمقارنة مع ما ورد على لسان وزير الخارجية كولن باول عقب زيارته لدمشق في أيار عام 2003، إذ جاء في البيان الذي تلاه بيرنز «تطرقنا إلى موضوع الإرهاب بشكل موسع حيث أوضحنا أن الرئيس بوش ما زال ملتزماً بالوصول إلى سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط (وهذا مطلب رددته سورية منذ اتفاقات كامب ديفيد عام 1979 وحتى الآن، وأصرت على أن تحقيقه هو المدخل لحلّ كل القضايا وأبلغت ذلك إلى باول في زيارته إلى سورية العام الماضي) ولكن مثل هذا السلام لا يمكن تحقيقه بوجود أعمال عنف، ينبغي على الحكومة السورية أن تأخذ خطوات لإيقاف أعمال دول وأفراد ومنظمات تعمل في ومن الأراضي السورية ولبنان والتي تسهّل وتدير مثل هذا العنف والإرهاب». وتبين من خلال قراءة هذا النص أن الولايات المتحدة لم تطالب هذه المرة بإقفال مكاتب المنظمات الفلسطينية وترحيل قادتها، وحلّ حزب الله، بل طالبت بوقف «أعمال العنف»، هذا مع العلم أن القيادة السورية كانت قد أشارت إلى أن البيان الذي تلاه بيرنز معدّ مسبقاً ولا يعبر عن جوهر المفاوضات التي أجراها الوفد الأمريكي في دمشق.

 

إذاً لقد قبلت الولايات المتحدة أخيراً الجلوس إلى طاولة الحوار، وهو الأمر الذي طلبته سورية عندما زارها وزير الخارجية الأمريكي كولن باول العام الماضي، ورفضت في حينها الحوار وأصرت على اعتماد لغة الإنذارات والعقوبات، فما الذي تغير وجعل الولايات المتحدة تقبل الحوار الآن، وما هي حدود التغيير في الموقف الأمريكي، وما هي آفاق الحوار بين دمشق وواشنطن؟

 

أولاً، الأسباب التي حدت بالولايات المتحدة قبول الحوار وتغيير مواقفها السابقة

خلال العام والأربعة أشهر التي أعقبت زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى دمشق وتوجيهه الإنذار لها حصلت تطورات إقليمية ودولية ذات طبيعة استراتيجية ومن أهم هذه التطورات:

1-                غرق قوات الاحتلال الأمريكي في الرمال العراقية المتحركة، وفشل عملية الاحتلال، وانقلاب السحر على الساحر، حيث تعيش الولايات المتحدة الآن مأزقاً هناك لا تعرف كيف الخروج منه، وأدى هذا المأزق إلى بروز ثلاث نتائج لها أثر مباشر على العلاقات السورية الأمريكية.

النتيجة الأولى، الرهان على أن يؤدي احتلال العراق إلى إضعاف وضعية ومكانة سورية الاستراتيجية لم يتحقق، بل تحقق العكس. فالعراق الذي كانت تريد الولايات المتحدة جعله منصة لفرض تغييرات في الدول المجاورة وخصوصاً سورية، تحول إلى ساحة استنزاف استراتيجية ضدَّ الولايات المتحدة.

النتيجة الثانية، لقد راهنت تلّ أبيب هي الأخرى على تحول استراتيجي يؤثر على موازين القوى والمعادلات التي تحكم الصراع العربي الإسرائيلي، وخصوصاً مع سورية، ولكن غرق القوات الأمريكية في المستنقع العراقي حرم إسرائيل من تحقيق هذا الحلم، بل إن المأزق الأمريكي الذي بات يفرض على الولايات المتحدة أولويات أخرى، سيؤثر على وضعيتها الاستراتيجية تأثيراً سلبياً على عكس ما كان عليه الحال قبل احتلال العراق، وفشل هذا الاحتلال.

النتيجة الثالثة، ينطوي الوضع الراهن في العراق على ديناميات خاصة باتت تتعدى مرحلة الانسحاب الأمريكي من هناك، فسواءً ظلت القوات الأمريكية في العراق أو انسحبت منه، فإن هذه الديناميات تشكل قلقاً شديداً للولايات المتحدة وللأنظمة العربية المتعاونة معها. وسورية هي البلد الوحيد بين كل دول جوار العراق التي تمتلك صلات إيجابية مع القوى الفاعلة في العراق سواءً تلك التي وقفت إلى جانب الاحتلال، أو قوى المقاومة، أو المؤيدة للمقاومة، وسورية بفعل عوامل كثيرة، سياسية واجتماعية واقتصادية مؤهلة أكثر من كل دول جوار العراق للعب دور فاعل في التعامل مع الوضع العراقي. وإذا كانت الولايات المتحدة، باتت على قناعة بفشل احتلالها للعراق، وهذه القناعة تؤكدها تقارير أمريكية متقاطعة، وبالتحديد تقارير وكالة الاستخبارات المركزية، فإنه لم يعد من المجدي أولاً مواصلة العمل ضدَّ سورية وكأن الوضع الاستراتيجي في المنطقة الآن كما كان عليه الحال بعد شهر واحد على سقوط بغداد، كما أن لسورية دوراً يجب أن تلعبه في مواجهة أي شطط يترتب على الديناميات التي أطلقها الاحتلال الأمريكي للعراق، وبالتالي بات الحوار مع سورية أمراً ملحّاً لا يمكن للولايات المتحدة تجاهله.

 

2-                منذ احتلال العراق في 9 نيسان عام 2003 فشلت محاولات الولايات المتحدة «لمكافحة الإرهاب» بل يمكن القول إن العمليات التي تستهدف الوجود والمصالح الأمريكية أخذت بالتصاعد في أنحاء مختلفة من العالم، واليوم هناك إقرار داخل الولايات المتحدة بتعثر الحملة الأمريكية ضدَّ الإرهاب بفعل السياسات التي اعتمدتها هذه الإدارة الأمريكية بالذات والتي أدت إلى فتور علاقاتها الدولية وعدم إقبال الكثير من الدول على المضي في سياسة التعاون معها، وهو الأمر الذي يفرض على واشنطن إعادة النظر في هذه السياسة.

 

3-                استعر الغضب في العالم كله ضدَّ السياسة الأمريكية منذ العدوان على العراق، فاستطلاعات الرأي التي نشرت مؤخراً أبرزت ازدياد العداء ضدَّ سياسة الولايات المتحدة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ودول العالم الأخرى في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وبدأ هذا العداء يؤثر على مواقف الحكومات خاصة في البلدان التي يجري فيها تداول السلطة عبر الانتخاب، حيث بدأت كثير من الحكومات تميل إلى تمييز مواقفها عن السياسة الأمريكية، وهذا بدوره مثّل تحولاً في العلاقات الدولية أثّر وسيؤثر على سياسة الولايات المتحدة.

 

4-                إسرائيل حليفة الولايات المتحدة، وركيزتها الإقليمية، تأثرت هي الأخرى سلباً من فشل الاحتلال الأمريكي للعراق، وتعثر حملتها «لمكافحة الإرهاب» وازدياد عداء الشعوب ضدَّ السياسة الأمريكية، وبدلاً من أن يشكل احتلال العراق تدعيماً لإسرائيل، أدى غرق الولايات المتحدة في المستنقع العراقي إلى إضعاف الولايات المتحدة، وكل نصر تحققه الولايات المتحدة ينعكس إيجاباً على إسرائيل، ولكن كل هزيمة تلحق بها تنعكس سلباً على إسرائيل، وهذا ما حصل في العراق، وأدى إلى تأثر المعادلة الإقليمية القائمة الآن.

 

5-                بعد أن فشلت إسرائيل في القضاء على الانتفاضة والمقاومة، وبعد فشل الولايات المتحدة إثر احتلالها للعراق في تغيير المعادلة الاستراتيجية في المنطقة، قررت إسرائيل الانسحاب الأحادي من بعض المناطق الفلسطينية التي احتلتها عام 1967، وهذا يجري لأول مرة منذ 37 عاماً، وتقوم إسرائيل بالتعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة بنشاط حثيث لدى مصر لحملها على العمل دون تحول المناطق التي سوف تجلو عنها إلى مناطق محررة وقاعدة ارتكاز لمقاومة أكثر تطوراً وأكثر تهديداً لإسرائيل، وفي سياق هذه الجهود التي تشارك فيها مصر طلبت القيادة الفلسطينية من القاهرة إشراك سورية في هذه الجهود أولاً لأن سورية طرف أساسي في الصراع، وثانياً لأن القيادة الفلسطينية، وعرفات على وجه الخصوص، لا يأمن جانب المصريين الذين دعموا جهود إزاحته عن القيادة، وثالثاً لأن فصائل المقاومة تثق بسورية ومستعدة للتعاون معها وسماع نصائحها أكثر من أي دولة عربية أخرى.

 

 

في هذا السياق لم يعد من مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل فرض الحظر على دور سورية في القضية الفلسطينية، بل إنهما يتطلعان إلى أن تلعب دمشق دوراً يساعد على تهدئة الموقف، وربما العودة إلى طاولة المفاوضات في وقت لاحق.

 

بفعل كل هذه التطورات والتحولات الاستراتيجية التي حصلت في غضون عام ونيّف، لم يعد بمقدور الولايات المتحدة مواصلة سياستها السابقة ضدَّ سورية، وكان اللجوء إلى الحوار هو أمر حتمي بعد أن فشلت لغة الإنذارات والضغوط.

 

ثانياً، آفاق الحوار السوري الأمريكي

إذا ما أخذ بعين الاعتبار تجربة لبنان بين أعوام 1982 و 1984 فإن الحوار لم يكن سهلاً، وسيكون طويلاً ومعقداً ومتعرج المسارات، والنتائج النهائية تتوقف على التطورات الميدانية، وخصوصاً في العراق وفلسطين. ولكن يمكن الآن الإشارة إلى بعض الخلاصات.

 

الخلاصة الأولى، لغة التهديد والضغوط التي لن تختفي من القاموس الأمريكي لن تتوقف، ولكنها لن تكون بنفس القوة التي كانت عليها في غضون الفترة الواقعة بين أيار 2003 وأيلول 2004، وهذا التحول يعكس من جهة السياسة البراغماتية الأمريكية، ويعبر من جهة أخرى عن التحولات الكبرى التي جرت في هذه الفترة.

 

الخلاصة الثانية، تقدم الحوار أو تراجعه يتوقف على مسار الأحداث، فكلما كبر المأزق الأمريكي في العراق، وتعمقت الأزمة داخل إسرائيل، كلما كانت الحاجة إلى المضي في الحوار، والبحث عن مساحات للعمل المشترك، هي الهدف الذي سوف تسعى إليه الولايات المتحدة، ولكن أي انتكاسة تُمنى بها المقاومة في العراق أو فلسطين ستقود إلى تعثر الحوار، وعودة الولايات المتحدة إلى لغة الإملاءات وفرض الشروط.

 

الخلاصة الثالثة، الحوار سوف يكون طويلاً، ولن يسفر عن نتائج حاسمة ومحددة في وقت قريب، وربما يكون الحوار في المرحلة الأولى هو الإيجابية الوحيدة في العلاقات السورية الأمريكية.

 

حميدي العبد الله

كاتب وباحث عربي في الشؤون السياسية

Hamidi_a@hotmail.com