الافتتاحية

كلام بعضه "حق يُراد به باطل"

العرب والعولمة

 

 

ما الذي يؤرق الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، ويقض مضاجعهم، ويهدد مستقبلهم ومستقبل أولادهم، ويدفعهم إلى الهجرة إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؟

 

أهو المس "بقدسية" الدستور الذي تم تعديله، وليس لأول مرة، أم هو المقاومة اللبنانية وسلاحها الرابض في الجنوب، وقد أصبحت عنصراً من عناصر التوازن الإستراتيجي، أو بالأحرى من "توازن الرعب" بين العرب وإسرائيل؟ أم قضية "السيادة" و"الاستقلال" وقد بقيا مصانين بالنسبة للبعض أبان الاستعمار الفرنسي والهيمنة الأميركية والاجتياح الإسرائيلي...، لينتهكا فقط بفعل الوجود العربي السوري؟

 

أم أن ما يقض المضاجع هو فقدان فرص العمل والإفقار المتسع والمتنامي واتساع دائرة الفساد والاحتكارات، والخوف من الانهيار الاقتصادي الاجتماعي الشامل، نتيجة تردي معظم مقومات الاقتصاد اللبناني بفعل مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجتها الطبقة الحاكمة منذ أوائل التسعينيات؟

 

عندما تعمقت أزمة النظام اللبناني، أزمة الطبقة الحاكمة البرجوازية الكولونيالية التي فقدت دورها الاقتصادي السياسي السابق، نتيجة متغيرات الداخل اللبناني ومحيطه، وعندما أشرفت أزمة هذه الطبقة على الانفجار، انبرت بعض القيادات إلى استثارة الغرائز الطائفية والمذهبية، وإلى دفع النقاش والحوار إلى خارج إطار الدائرة الاقتصادية الاجتماعية، وإلى دائرة العلاقات السورية اللبنانية حيث بالإمكان استثارة الشوفينية اللبنانية المتجذرة في بعض الأوساط الشعبية، تحت شعار "السيادة" و"الاستقلال".

 

لا ريب في أن بعض ما يردده هذا التحالف الشوفيني حول تجاوزات بعض القيادات العسكرية والأمنية السورية في لبنان صحيح. ولا ريب في أن بعض هذه القيادات قد تحالف مع العديد من أبناء الطبقة الحاكمة اللبنانية، وشارك في الفساد المستشري وفي مغانم التسلط والاحتكارات. ولا ريب في أن بعض هذه القيادات قفز فوق القوانين والأنظمة المرعية في علاقاته مع المواطنين اللبنانيين... كل ذلك صحيح. ولكنه "كلام حق يُراد به باطل". إن النظر إلى الوجود السوري في لبنان من خلال هذه الثغرات الكبيرة، ونسيان الدور النضالي والأمني لهذا الوجود، بدل الرؤية الإستراتيجية الشاملة التي يجب أن تحكم الموقف النهائي من التحالف مع سورية أو العداء لها، أمر غير بريء.

 

إن نسيان الدور السوري في التصدي للاجتياح الإسرائيلي ومنعه من تحقيق الأهداف الميدانية لخطة "الصنوبرة المتوسطة" للاجتياح والمتمثلة بالوصول إلى بلدة رياق في البقاع، والتوجه منها شمالاً إلى الغرفة الفرنسية في سلسلة جبال لبنان الغربية، ومن الوصول إلى بحمدون وبيروت خلال اثنين وسبعين ساعة، ودفع آلاف الشهداء، إن هذا النسيان ليس بريئاً.

 

إن نسيان الدور السوري الحاسم في دعم المقاومة اللبنانية في الجبل كما في الجنوب، والذي مكن من إسقاط 17 أيار، وأسقط الحكم الانعزالي، وأجبر العدو الإسرائيلي على الاندحار حتى مزارع شبعا، ليس بريئاً.

 

إن نسيان الدور التوحيدي لسورية في لبنان بعد أن تشظى إلى دويلات وكانتونات طائفية، وإنهاء الحرب الأهلية، وفرض الأمن فيه، ليس بريئاً.

 

إن نقد الوجود السوري في لبنان من موقع قومي يساري ملتزم وهادف إلى تصحيح العلاقة وسد الثغرات شيء، ورفض هذا الوجود من موقع إمبريالي إسرائيلي انعزالي شيء آخر.

 

ولن يستطيع أحد أن يقف على قدميه وكل واحدة منهما في موقع من الموقعين المتناقضين. ومحاولة المواءمة، بين فكرة "القومية" اللبنانية ذات الجذور الكولونيالية والقومية العربية التحررية والوحدوية، ستبقى محاولة فاشلة، لأنها تحاول الجمع بين نقيضين، ولن تخدع أحداً.

 

العرب والعولمة