جاءَكَ الخريفُ
فأينَ المفرًّ؟
بردٌ وريحُ
قصفٌ وعصفُ ...
راجع حسابَك.
ماذا تبقّى لك من رصيد؟
عِشتَ مديدا
بالنسبةِ لزهرةٍ،
لعصفور ...
غالبتَ من الفصولِ
عديدا !
فلم يرهبْك منها شتاءْ
ولا انحنيتَ لخريفْ ...
تمتّعتَ بالفصول حتى الانتشاءْ،
فتماديت في كل صيفْ
وطربتَ لكلِّ ربيع
مدَّ لك بساطاً جديدا.
راجعْ حسابَكَ ...
ماذا تبقّى لك من رصيد؟
عرفتَ الغرامْ
فذرفتَ دمعة
وقطفتَ بسماتْ.
عرفتَ الصداقة
ونعِمتَ بالوئامْ
فغنّيتْ :
ألا، ما أطيبا !
اجتني، يا نفسي،
ذا الحضورَ الأَعْذَبا ...
عرفتَ الخيانة
فكدت تكفر بالقدرْ،
بالبشرْ،
لكنّكَ مشيتْ
متعالياً على الجراح،
ترومُ أُفُقاً أرحبا !
ومشى بكَ العمرُ
حتّى ناءت بهِ كتفاك
وحَرَثَتْ جبينَكَ الغضونْ
فماذا تبقّى لك من رصيد؟
راجع حسابك.
عرفتَ النجاحَ مرّاتْ
ورَجعتَ بالخيباتِ مرارا.
بَنَيْتَ من الأحلام قصورا
وزرعتَ الحدائق فُلّاً ومنثورا،
وجئتَ الحصاد
فألفيتَ قصرَ أحلامِك قد انهارَ ...
وعُدتَ تحلُمُ
تبني من جديد
وتهدُمُ،
تعطي الحياةْ
تغني المدينة
ولا تندمُ على ما فاتْ.
ومشتْ بك السنونْ
حتى تثاقلَ الخطوُ
وارتعشتْ يداك
وارتختْ فوقَ ناظريكَ الجفونْ
راجع حسابك.
ماذا تبقّى لك من رصيد؟
زهرةُ قلبِكَ صوّحتْ،
صارت وردَة الخريف،
إن تُنعِشْها مطرةُ الصباحْ،
لحظةً،
فاحتْ،
وسرعانَ ما تذرّيها
هبّاتُ الرياحْ !
هكذا صِرت نَهْباً للمشاعِرِ،
تضحَكُ وتبكي ...
صِرت في خريف العُمرِ
وسرعان ما سيأتي الشتاءْ
فإن كان يشجيكَ،
في الخريف،
رحيلُ طير صوبَ الجنوبْ،
وإن كان يُبكيكَ اعتكارُ السماءْ،
وارتعاشُ أوراقٍ صفرٍ،
تخشى الهبوبْ،
فكيفَ سَتَلْقى الشيخ الأبيضَ؟
راجعْ حسابك.
ماذا تبقّى لك من رصيد؟
لا تخشَ ذا الشتاءْ !...
لديكَ كنزة ترتديها،
ولديك نارْ،
فاصطليها،
وتذكرْ :
يختبيء النورُ خلف الغيوم،
والغيومُ إلى زوال،
وبعد المطرْ
يعودُ البهاءُ إلى النهارْ،
فتفكّرْ ...
لا تخشَ شتاءَ العمرِ،
كيف تخشى ما ليس منه بدُّ؟
يأتيك رفيقَ الوطءِ،
يختلِسُ الخُطى،
فينسلُّ منك شوقٌ وعزمُ،
ويَهجرُك الطموحُ،
فلا يغريك، بعدها، وعْدُ
وتفقُدُ، كلَّ يومٍ، شيْئاً،
وتنسى،
ويعانقُ نفسَك زهدُ،
وترضى.
لا تخشَ !
يبقى لك الكثيرُ،
وتنعمُ.
يبقى لك الصباح
يشرقُ
فتستبشرُ وتحلمُ
بيوم يزيدُ
تأنس فيه بجارٍ يحيّي
أو بصديق يعودُ.
تبقى لك عائلةٌ
بها الحياةُ تستمِرّ
وفيها يرعاك الوفاءُ
وفيها يفيض الهناءُ،
إذ يرتمي في حضنِك،
ويعانقُ
طفلٌ حفيدُ ...
ويأتيك المساءُ الاخيرُ،
فتغمضُ،
وتبقى خلف الجفونْ،
من زمنٍ مضى،
رؤىً تشعُّ بالحنينْ،
وتومضُ،
ثم تخبو لتفنى،
فما أنتَ، هنا، بعدُ.
قطرةُ ندىً
طلعتْ عليها الشمسُ
فكأن لم يكنْ لها،
بالأزهارِ، عهدُ.
لا تخشَ ذا المساءَ
الأخيرَ ...
إغماضةُ عينٍ،
وتستسلِمُ،
وتعانقُ روحَك الروحُ
وتعلمُ :
إلى الينبوعِ تروحُ
فما أنت منه إلّا قطرةٌ فارقت
وإليه تعودُ
تتحِدُ
وتخلَّدُ. |