back to Book

نصب بابلي جديد في عكار[1]

شير الصنم

I

يبدأ الأب تالون مقاله بالإشارة إلى "أحداث" 1958 وتأثير ذلك في دفع الإدارة اللبنانية بشق الطرق لربط مناطق الشمال الحدودية لا سيما وادي خالد وأكروم بطرابلس. وكان من فوائد ذلك تسهيل حركة الباحثين في الآثار في هذه المنطقة التي قلما ارتادوها.

ثم يستعرض بسرعة ما قام به البعض من الرحالة: بونيون في اكتشافه نقوش وادي بريصا عام 1883 ونشرها عام 1887، ثم تعميق البحث فيها من جانب لاندون Langdon وويزباخ Weissbach. ورحلة الأب لامنس التي كرس قسماً منها لاستكشاف أكروم صعوداً من عندقت، وعثوره على نصب بابلي جديد في وادي السبع في أكروم على شيء من الشبه بالنصب الذي اكتشفه بونيون في وادي بريصا.

الجديد الذي أتى به الأب تالون في وادي السبع في أكروم هو اكتشافه نصباً بابلياً لم يفطن له زوار هذا الوادي وفي موضع غير بعيد عن النصب الذي عثر عليه الأب لامنس (بعده بستين متراً وأعلى منه بعشرة أمتار). وفي ذلك يقول:

عندما زار أكروم عام 1933 الأمير موريس شهاب، يوم كان باحثاً شاباً في الآثار وقد أصبح مسؤولاً لمديرية الآثار في لبنان، لاحظ وجود هذا النصب الثاني ووضع وصفاً وصورة دقيقة له... نرى فيه رجلاً يعتمر قلنسوة tiare، رافعاً ذراعيه ابتهالاً أمام الرموز الدينية[2]. سمحت لنفسي بنشر صورة لهذا النصب الذي نشر رسمه الدقيق جداً في مجلة (Syria, 1935, t. XI, P. 5)[3]. ووضعت معه صورة نصب الأسد لأن طراز هذا النصب، تركيبه، حركته، ما يجعل منه مأثرة قيمة، يكشفها الرسم الدقيق المنشور في نفس الصفحة من المجلة. إن الكليشيه الذي أعده بابوجيان P. Paboudjian يؤهله لذلك.

هكذا على بعد 60م لدينا شاهدان أكيدان عن الحضور البابلي في هذا الوادي. وتفسير ذلك من شأنه أن يكون من خلال النقوش المسمارية في النصب المذكور. وإني لأظن من جهتي بهذا الخصوص أن النصب يحتوي على كتابة منقوشة تحت نقش الشمس حتى طرف اليمين من النصب. فآلاف الثقوب الصغيرة الصامدة في الأجزاء السليمة من الصخرة توحي بأثر المقص

 

 

الرسم الذي وضعه موريس شهاب والمنشور في: Syria, 1935, t. XVI, p. 57

الحاد الذي يعين أطر الحروف المسمارية. إن الصخرة الطرية والمعرضة كثيراً لجهة الشمال الشرقي، تعرضت لتخريب الجليد، والقسم السفلي منها تعرض للتخريب على مدى طولها. ويبدو لي ممكناً التعرف من خلال الرشم على بعض الحروف المتفرقة والصامدة.

 

II

وفي مطلع ربيع 1968 قام الأب تالون بدوره بجولة في المنطقة وقد أضحى الوصول إليها سهلاً لأنه بثلاث ساعات بالسيارة، على حد قوله يتم الانتقال من بيروت إلى أكروم، وزار نُصب وادي السبع... ولقد طرح الأب تالون قضية اهتمامه بالمنطقة بقوله:

انطلاقاً من اهتمامي بالطرقات القديمة التي تجتاز جبل لبنان[4] قد خطر لي السؤال الآتي: إلى أين ذهب البابليون لدى مرورهم بوادي السبع؟ وبما أنه توجد في وادي بريصا، على مسافة 10 كلم إلى الجنوب، طريق سهلة بصعود خفيف يصل إلى منبسط ممر جبلي واسع يؤدي إلى الوديان التي تسمح بالعبور إلى طرابلس، لماذا اختار البابليون هذا الوادي الضيق بجوانبه الحادة؟

وجدت الإجابة على هذه الأسئلة في صراع البابليين الجدد بوجه التطلعات التوسعية للفراعنة. لقد وجدت مصر التي تربطها التجارة بصور وصيدا في هاتين المملكتين الصغيرتين حلفاء جاهزين لقطع الطريق على البابليين. أما القدس التي أبدت أيضاً استعدادها لتقبل حماية من يسعى إليها ويواجه الهيمنة البابلية فقد انضمت طوعاً إلى المحالفة المصرية. وهكذا في الصراع بوجه التهديد الحاد دوماً عبر المكائد الدبلوماسية، وخشية هجوم جيوش الفراعنة، وجد البابليون لزاماً عليهم تصفية مملكة اليهودية، ولكنهم لا يستطيعون ذلك إلا بعد إخضاع الممالك البحرية القادرة على إرباكهم في هجومهم على القدس.

كانت المحالفة الفينيقية بين القرنين الثامن والسابع ق.م. تضم القدرات الصغيرة لصور وصيدا وأرواد، للدفاع عن وجودها ومصالحها. فقواتها الموحدة الموضوعة في موضع إستراتيجي مختار بعناية، مثل رأس شكا أو نهر الكلب، من شأنها هزيمة قوات بالغة الأهمية. هذا بالإضافة إلى وجود موقع متقدم، في حينه، مدينة عرقة، التي اشتهرت لاحقاً في زمن الرومان: إن تل عرقة المرتفع حوالي 30م عن نهر عرقة يكشف قي قاعدته أثاراً تعود إلى العصر البرونزي. هذه المدينة القابعة على سفح الجبل في الموضع الذي منه يبدأ السهل الساحلي الضيق بالاتساع نحو الشرق من شأنها أن تكون هدفاً يراود كل من يرغب بتأمين ممر له نحو الجنوب على الساحل. وعلى كل ثمة ممر سريع إلى البحر، بفعل انطلاقة جريئة من على المنحدرات الشمالية لهضبة القموعة تؤدي إلى قطع الطريق بين المجال البري لأرواد وفينيقيا الجنوبية. هذه هي الآراء التي أوحاها لي التأمل بنصبي وادي السبع. وعليه كانت فرضيتي البحث عن علامة أو نقش أو نصب على الطريق بين أكروم والعبدة[5].

بدأت التفتيش في عكار العتيقة، ثم بجانب أهل القبيات، البلدة الكبيرة القائمة غربي نقطة انطلاق الطريق المفتوحة حديثاً والمؤدية إلى أكروم. وسرعان ما استجوبت أحد الصيادين الكثر في المنطقة وأفادني أنه يعرف فقط صخرة محفوراً عليها نجمة. المؤشر واضح: نجمة أو شمس، فالكوكب المنقوش بيد بشري ينبأ على الأرجح بوجود نصب فيه شخص أو نقش. وفي السابعة من صباح الغد كنا عند "شير الصنم"، وإذا بالصياد يهلل قائلاً لي: "ها هو، وإني لأرى الرجل أيضاً". واستلزمه المغامرة على صخرة على يسار النصب ليصدق وجود "كتابة بشكل المسامير". كان النصب محفوراً بارتفاع 7.5م على قمة صخرة منفردة ترتفع 25م عن الأرض.

تقع الكتلة الصخرية التي يقوم عليها النصب متجهاً نحو الجنوب على ارتفاع يتراوح بين 1550م و1600م، عند منطلق واديين أحدها يؤدي مباشرة إلى البحر عبر عكار العتيقة، والآخر يتجه نحو الشمال الغربي ليمر في مزرعة زبود ومنها إلى القبيات. وثمة ممر ثالث ينطلق نحو الجنوب ويمر على سفح هضبة القموعة، وعبر غابات الصنوبر وتاشع وممنع والقنطرة ليصل إلى عرقة مباشرة. ما يعني أن اختيار موقع النصب تم بعناية.

من العبث السعي إلى المزيد من تحديد المسار قبل فك رموز النصب. لقد بات معروفاً أن النصب بابلي فعلاً، لأنه يحتوي على نقوش مسمارية يمكن تبينها بواسطة المكبر، كما أن الكواكب وموقف الشخص تسمح بإدراجه في سلسلة نصب وادي بريصا ووادي السبع. ووحدها قراءة النقوش تفيدنا بالمزيد حول وضعه.

لنصف الصورة بالتفصيل استناداً إلى ملاحظاتنا التي أكدتها صورة النصب التي تفضل بالتقاطها باسكال بابوجيان. إن هذا النصب الموجه مباشرة إلى الجنوب تعرض للتآكل، والنقوش فيه باتت تالفة للغاية، ومنها الصعوبة بأخذ صور واضحة للحروف المسمارية.

الملك واقف يمسك بيده اليسرى عصا كبيرة، هي نوع من صولجان منتفخ في بعض أجزائها؛ وترفع اليمنى شيئاً قصيراً يمكن التعرف عليه في النصب الذي نشره باروا Parrot في الصفحة 169، الكليشيه رقم 216، في مؤلفه الرائع حول أشور. يعتمر الشخص قلنسوة مزودة بغطاء للوجه يسمح مغيب الشمس بتبينه بشكل أفضل. وهو ملتح، وإذا كانت أطراف قلنسوته المحجوبة إلى الخلف، فالظل يرسمها فوق الجبهة وإلى أدنى منها ملامح الوجه. يمكن تمييز العصا الطويلة التي يمسكها بيده اليسرى في الصورتين. أما نهاية اليد اليمينى فمبهمة. وأمامه على طرف الصخرة النافر رمز إشتار (نجمة بسبعة أطراف) يبدو نافراً بكل وضوح في إطار مربع غارق في الصخرة. وأما الهلال إن وُجد فلا بد أنه اختفى مع الطرف اليساري العلوي الذي يعين حدود النصب... لا يبدو أن الصورة الثالثة تظهر الحروف المسمارية ولكن يُرى فيها فقط الخطوط المنتظمة بواسطة مقص نقش الحروف. ولكن يمكن تمييز الحروف المسمارية بالنظر بالمكبر ومن موقع على مسافة 50م على الطرف الآخر من الأرض فوق النصب.

نأمل أن نقدم قريباً، ما أن تسمح الأحوال الجوية، صوراً وأرشماً للنقش. ووحدها قراءة النص تعلمنا حول مصداقية فرضيتنا وحول الظروف التي أدت إلى أن يُحفر في قلب هذا الجبل تذكاراً لجيش بابلي كان قد اجتاز قمة لبنان على بضعة كلم شمالي القموعة.

*****

زودنا مشكوراً د. أنطوان ضاهر، الناشط في مجال البيئة والتراث، بمجموعة من الصور التقطها لنصب شير الصنم. في الصورة الأولى عمل على إبراز حدود الشخص الواقف فيها، وعلى يمينه إلى الأعلى يبدو طرف النجمة في ظل الكوة. أما الثانية فحافظ عليها كما التقطها وفيها تظهر النجمة بشكل أوضح. أما الثالثة فهي لصخرة النصب بكاملها.

الصورة الأولى

 

الصورة الثانية

 

صورة كامل الصخرة وعليها نقش شير الصنم



[1] المرجع: Maurice TALLON (S. J.), “Une Nouvelle Stèle Babylonienne au Akkar (Liban Nord), Mélanges de l’Université Saint-Joseph, tome XLIV, Fasc. I, Beyrouth, 1968, pp. 2-8.

[2]  راجع: C.J. GADD, The Harran inscriptions of Nabonidus, dans Anatolian Studies, vol. VIII. 1958, p. 41.

[3] الرسم منشور في: t. XVI، لا في: t. XI. وذلك من ضمن القسم الثاني لمقال موريس شهاب بعنوان: Sarcophages en plomb du Musée National Libanais.. والصورتان منشورتان بدون تعليق عليها، باستثناء القياسات الموضوعة داخل الصورتين.

[4]  راجع: M. TALLON, Sanctuaires et itinéraries romains du Chouf et de la Beqa, dans Mélanges de l’Université Saint-Joseph, t.XLIII, PP. 231-250.

[5]  نقصد الوجهة العامة للمر، فالهدف هو تعيين موضع ما على الساحل. قد يكون ذلك في الشيخ زناد Cheikh Zenoud، ونظراً لطبيعته قد يكون هو أيضاً نهاية لهذا الممر، أو تلاً آخر من تلك التابعة لعرقة: تل عباس الشرقي أو تل عباس الغربي أو تل الحيات التي لم يتم حتى الآن استكشافها، والتي كانت قائمة في تلك المرحلة. كما قد يكون تل عباس الغربي أيضاً هو الموضع المختار بحكم دوره كحارس لمدخل وادي نهر الاسطوان الذي تتدفق مياهه من منحدرات القموعة.

 

د. جوزف عبدالله

back to Book