back to Kobayat |
عارف قدَيْح.. الطائر البيئي الأول
الصورة لرودريك زهر
بومدين الساحلي - نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-10-29 على الصفحة رقم 4 – محليّات
في مشاوير المشي الطويلة لاستكشاف الطبيعة التي بدأتُها قبل 15 عاماً، كثيراً ما تردد على مسامعي اسم عارف قدَيْح. كان الأصدقاء يتبادلون خلال المسير ما علّمهم إياه عن الزهور البرية والأشجار الحرجية، وكانت مسحة من الفرح والزهو تعلو وجوههم كلما جاء ذكره. صرتُ توّاقاً للتعرف إليه، ورسمت في خاطري صورة ذلك الرجل الممتلئ بالنشاط والمعرفة والحب، إلى أن حمل لي الهاتف صوتَه قبل سنوات «كيفك يا صديقي، نحنا جايين نمشي عندك بين اللزّاب ومعي 80 شخصاً تقريباً، حضِّر حالك».
عارف في جرد الهرمل، ذلك شرف كبير لي. عند وصول الباصات،
رحتُ أتفحص الوجوه حتى أخصّه بالسلام. لم أستطع التعرف إلى ذلك الذي خمّنته
خمسينيّاً أو أقلّ. كان عارف آخر من توقعته بين الزائرين. رجل ثمانيني بقامة ممشوقة
وسمرة لافتة للنظر. على ظهره، حقيبة كبيرة تتجاوز الكتفين. حين اقتربت منه، ضمني
إلى صدره بحب هجين وهمس في أذني «أنا فخور بما تعمله بالجرد. الهرمل بتستاهل إنّو
الناس يعرفوها بغير الصورة النمطية المتداولة عنها».
في أواخر عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي، نسج عارف علاقته الأولى مع الطبيعة في محيط قريته القبيات. هناك أنصت إلى سمفونية أزلية تصنعها أصوات عصافير الحسّون وأبو التين والكيخن والسمّن وأبو بليق وأبو الحنّ، واشتمّ الروائح البكر من أشجار الأرز واللزاب والشوح والكوكلان، وما أحاط بها من زهور برّية، واستعان بخيراتها وأغصانها اليابسة على عيشٍ صعبٍ في أرض كان الوصول إليها في ذلك الحين، مشقّة وسفراً.
كقدَر أبناء القرى النائية، انتسب عارف إلى السلك
العسكري. تدرّج حتى صار ضابطاً طياراً. تحليقه المستمر فوق كافة أرجاء البلاد،
ساعده في اكتشاف تنوعها، فوسّع حلمه بالتعرف عن كثب إلى قممها ووديانها وسفوحها بدل
أن يسمِّر عينيه على النجوم المعلقة فوق كتفيه كعادة أغلب أقرانه. انتبه إلى حجم
الكارثة الناتجة عن الرعي الجائر والتوسع العمراني المخيف والحرائق المشبوهة، فما
إن بلغ سنّ التقاعد حتى سافر إلى فرنسا لدراسة علم الغابات والزهور البرية.
بعد عودته، بدأ عارف مرحلة جديدة في الحياة. راح يعرّف
الناس إلى الجمال والخير المنتشر حولهم عبر مشاوير المشي الطويلة، مصطحباً معه في
نهاية كل أسبوع عشرات المريدين، ولم ينحز في ذلك إلى قريته القبيّات، بل كانت
البلاد طولاً وعرضاً مسرحاً لرحلاته التي لم تهدأ يوماً. صادق الرعيان والفلاحين
وقاطني الأرياف النائية وأعاد رسم الدروب القديمة الممتدة من بلدته حتى قرية
مرجعيون جنوباً. يكتشف ويشرح ويستمع ويتبادل المعرفة، فنشأ على يديه جيل ساهم في
الحفاظ على الطبيعة وتنمية مواردها على امتداد الوطن، وكان مجلس البيئة في عكار،
قبل أكثر من ربع قرن، وما يزال، ريادياً في تمتين أواصر الصداقة بين الناس
والطبيعة.
سيدة القبيات سترشح هذه الليلة زيتاً كثيراً كرمى لابنها الراعي الصالح الذي نال «وسام الأمم المتحدة للحفاظ على البيئة ومحاربة الفقر». لم يتنكر عارف لماضيه وأهله كما فعل الكثيرون من حديثي النعمة، ستبارك خطوته بتسليم علم المسيرة إلى أنطوان وجوني ورودريك والكثير من المخلصين: طوبى للذين عاصروا هذا العارف الذي سيعبر إلى تسعينه قريباً، الصادق والشهم والضالع في الحب.
يحظى عارف قديح، اليوم، بتكريم طويل في بلدته القبيات، يتضمن مسيرة في الطبيعة وغداءً قروياً وحواراً معه ومعرضاً عن غابات لبنان للمصور يوسف نصّار ولقاءً حول البيئة والطبيعة.
http://assafir.com/article/515833